(( حالة طوارئ في قلب غادة )) !!
حينما تنتهي قصصنا ..
نعود بلا حلم يؤرقنا..
نخرج من الباب.. أو يخرج الباب من أضلعنا..
نعود فننكفئ على طقوسنا الداخلية.. الصمت هو أجملها..
وحذاء جعفر الذي لم يغيره .. يعلمك ان الحياة اقسى من حذاء سياسي أعمى..
نبدأ نسأل عن اسماء الشوراع من جديد..
وعن المكتبة التي تحولت إلى صالون حلاقة نسائية.. وعن كتب الفلسفة واسماء مؤلفيها..
أنك تعود من جديد حينما لا تكون في حياتك قصة.. فتقرر أن تتعلم السعادة، وأن لا تتذمر او تشكو من الطقس والملل والرغبة في أن تجد عملاً، مع أصدقاء عمل يفهمونك ولا تحتاج كثيراً لأن تبرر لهم رغبتك، في صنع وجوهاً أخرى لهم.. وتحصل على صديقة جديدة تشبهك في إبتسامتها، ومثلك تشعر بأن الكلام يفقد معناه بعد العاشرة ليلاً.. ترافقني في أكتشافي للمقاهي المعلقة على واجهات الشوارع الترابية بمدينتي.. ولا تسألني عن قصصي السينمائية التي انتهت ولا أود العودة إليها...
اليوم فكرت بك كما أفكر بكل تلك الأشياء التي كانت تحيطني وتخلت عني بلا سبب..أتذكر مواعيدنا الأولى.. والكتاب الذي حرصت على أن تحضره لي قبل سفري بدقائق.. لأفاجأ انك احضرت لي كتاباً كنت قد خبأته في شنطتي الكبيرة.. الهذا الحد نحن نتشابه، أم أنك تحب أختراع المسرات لي.. كي أبقى معلقة في التفكير بك بلا سبب..تعرف إنني اسقط امام خيبة الجمال.. لكن ماتعرفه انني كبرت ليلة البارحة حتى انني استطيع ان انسى بسرعة مذهلة كل ماقلته لك قبل أيام..
واليوم تفاجئت أنني احب اللون الأخضر.. طالما كرهت هذا اللون منذ كنت صغيره في ملعب المدرسة.. الذي تتوسطه شجرتان، ويبدو أن لهما اللون الأخضر، الذي بدأت اتغلب على شعوري بكرهه، رغم أني لم اعتاد على كره أحد، وخجلت البارحة أن اكرهك.. قلت لك مرة إنني انتظر الشتاء بشغف. لكنك لم تصدقني واكتفيت بأقناعي بضرورة ان نلتقي في ذلك المساء في معرض الصور، حيث كل ماعلق على الحائط الأبيض صوراً لوجوه أشخاص لا نعرفهم.. ولكنك تحديّتني لتكشف لي، إنني سأفاجأ لربما أجد صورتي وأنا صغيرة، معلقة من ضمن كل هذه الصور العالميةّّ. لم تكن مساحة المكان مشغولة بآخرين، وصلت وأنت تعلم أنني سأكون بإنتظارك. كنت تستعجل مابيننا، حتى أنني خلت أنك تريد ان تقول لي، إنك تحبني منذ أول لقاء لنا؟ وبعدها تبدأ في مسايرة لعبة القط والفأر، كما يفعلها معظم الرجال في وطني. لماذا كنت تستعجل معي المفاجاءات.. من الذي اخبرك بسري.. إنني مغرمة بحيل السحرة واللاعبين المهرة!!
قلت لي إننا سنكون اصدقاء، وأجبتك بأنك لست سوى كاذب، وبأنني لن اكتشف أغنية أخرى حتى تحبني. رسمت الجرح في رقبتي والدموع التي تنساب منه، فأحاول إيقافها بريشة جديدة، ربما إذا عدت إلى سماع الأغنية نفسها اكثر من عشرين مرة متتالية، لرسمت صورتك الأخيرة وانت بلا قلب وربما بلا مواجهة.
مشينا في عتمة الثامنة في المدينة، بعدما دققت في كل صور المعرض دن أن أفهم إنبهارك بتكرار مشاهد بعض الوجوه الضيقة التعسة، كانت هناك سيدة ترتدي الحجاب الأسود، تغرس الألم لكل من يشاهدها تضرب بيديها على صدر عباءتها المغبرة من أثر الحرب، قلت لي بتساؤل موجع إذا كانت المرأة على قيد الحياة أم لا؟ سألتك أن تكف عن طرح أسئلتك القاتمة، قلت لي، لقد قرأت وجعهها.. كان كبيراً، لا أظنها ستعيش طويلاً!!. كان حديثنا عن خوفي الجديد، من القراءة والترجمة وإنشغالي بالألوان وبتحديد هوية إنتماءك النفسي العنيف، أو عدمه لأني لم أعد أراك في مكان أو شخص أو حلم أو أكذوبة. فأكتشفت أنني إذا كتبت قصتنا، التي قد تبدو قديمة ومستهلكة، سأسميها " قلبي في حالة طوارئ"، لم أسألك لم لا تحبني؟ أو عما فعلته لأستحق إنسحابك الذي فاجئني، وردة الفعل تلك من نفسي. لكنك كنت تتوقع مني أنني سألحق بك.. ربما هذا ماقالته لك تلك الأغنية؟
لم أقل لك شيئاً، قلت صمتي فقط، ربما قلت إنني لم أجدك أو أنني وجدتك، لكنك نسيت، منذ أبتعادك عني في المرة الأولى بت مشروع أسطورة بالنسبة لي، ولأنني تعودت أن احترم غموضك منذ غادرت، تعلمت أحترام إصرارك على أننا أصدقاء، تضحكني فكرتك عن استهلاك المشاعر، لكنني لست مستعدة الآن لأن اكون إنسانة عادية، تضحك حين يستدعي منها الموقف أن تضحكك وتبكي كلما غادرت.
لم تعد الألوان كما عهدناها في السابق، ربما لهذا أحاول الرسم وأواظب على ممارسة اليوجا، صورتك القديمة حينما كنا معاً في لندن، أحياناً تقلتني فأنا اريد ان اتأكد، إن ماحدث في ذلك النهار الضبابي، لم يكن مشهداً مسروقاً من فيلم قديم، هل تذكر حينما رفضت أن أخرج من المقهى العتيق الصغير، الذي يقع في نهاية الشارع في جادة 221 الجانب المعاكس لمحلات هاردورز، قال لنا الرجل اللبناني ضاحكاً أو مبتسماً لنا، إن هذا المكان هو المقهى المفضل لشاعر المرأة الحر، نزار قباني، وشغلتنا الفكرة وشغلنا الحلم، وشغلتنا فكرة أننا لربما نكون شعراء، لو ظللنا نواظب على المجئ إلى هذا المقهى، نأكل ونضحك ونقص أخبار طفولتنا البعيدة، سقط المطر كثيراً في المدينة، وكان عليّ ان أغادر المقهى، ورفضت.. قلت لك أني أخاف المطر، وأخاف أن يقتلني بعنف وأنا ابنة الصحراء، التي لم تتعود على المطر العاصف، وإنما مطر وطني هو مثلي لطيف ومحب وقادر على أن يذوب في العشق، مسكت ذراعي، وبقوة الرجل بداخلك قلت لي، سيتوقف المطر حالما أفتح الباب، كنت خائفة ومرعوبة، لأول مرة أجيد فهمك، ولأول مرة أشعر بأني قادرة على أن ابقى معك، رغم كل ذلك الخوف الغامض، فتحت الباب وعيناي معلقة على رأسك، صوت اللوحة المعدنية يصطدم بالباب، فتحدث صوتاً أخترع له شكلاً وروحاً ليكون لي، يفتح الباب.. فيتوقف المطر فجأة، وتنظر لي نظرة الرجل المنتصر، ها ألم اخبرك، هل ماعدتِ تصدقيني؟ لقد توقف المطر!!
ولأننا تغيرنا إلى مالا رجعة، لن أغضب منك وسأواجه قرار هروبك، وعدم رغبتك في مواجهتك لي بكثير من اللامبالاة، سأنتهي في الساعة الخامسة من كل شيء، منا ومن مشروع فاشل جمعنا، لكن هل كان عليك أن تعهد إلى بصورتك وسط مساحة من المطر بجانب المقهى العتيق، كي أضطر لأن أتذكر إذا ماكنت أنت ذلك الرجل الساحر، الذي يجيد لعبة تحويل المناديل إلى حمام طائرمن كم قميصة، أم انك ذاك الذي لا يعرف كيف يعيد فتح قلبه، أجدت اليوم خلق حواراً بيني وبين نفسي، لماذا يخاف رجال قبيلتي من مواجهة بعض حقائقهم، أنهم أقل بكثير مما هم يظنون به أنفسهم، أنهم أقزام حينما تتحول قصصهم العاطفية، إلى أشبه بالحقيقة التي يهربون من وضوحها.رغم كل ذلك حاولت أن أحتفظ ببعض من جمالنا وبأغنية لازلت مصرة على أن أحبها.
كم أود أن اطلعك على سر تغير نظرتي لك، فيما يشبه الصمت، أنظر إلى صورتي فأتخيل أنك سترمقها خائفاً من قصص أخرى ستدخل حياتي، وأفرح بقدرتها على أنتزاع إعترافك بأنك رغم كل شئ لم تكن تملك القدرة على أن تقول لي الحقيقة.مشاعر الأنتقام غنية وجديدة بالنسبة لي، فلم َ لا تكون مشروع أكتشاف، كيف أستطعت أن تحافظ على قدرتك على التمثيل تجاهي، قبل العاصفة التي أتت لتغيرني، في إحدى نوباتي، بحثت عن سر واحد لترتيب ماحدث لك، فلم أجد سبباً واحداً، لكن صورتك تزورنني احياناً نهاية كل أسبوع، وتضيع مني لسوء الحظ، أجد الآن رجلاً آخر غيرك، رائعاً والقاً وشهياً، يتنفس معي، ويرسم على ظهر كفي قلباً، ويكتب اسمه وياللغرابة لم يكن اسمك!!
و أيضا ..
حين يهطل المطر على حين غرة أذكرك ..
هكذا تسللت الى حياتي ذات مساء كعصفور مذعور ,, و بينما كنت أداوي جناحه الجريح كان يتأهب ليطير ,
و ها أنا وحيدة في الخواء مع ذكرى عصفور حلق بعيدا تحت المطر ...
أتسائل : حتام تنزه (( حبك )) فوق أشلاء نوحي !!
حتام نتستر على جرحنا و نجامل فراقنا !!
::.. الشوق من الوريد الى الوريد ..::
/
\
/
\
/
مرير هذا الإحساس
بشوق ناري لا يهدأ ....
لا اللقاء يطفئ وهج نيرانه
ولا الفراق ....
دوما ً دوما ً أفتقدك
بــ استسلام كوكب
لـ مداره حول الشمس ..
وحين أسمع صوتك
يتناسل شوقي إليك ويتكاثر ....
وحين يغيب صوتك
ماذا أقول لقبيلة الشوق
التى تقرع طبولها داخل رأسي
دونما توقف
دونما توقف .. دونما توقف
منذ عرفتك
وأنا أحترف حبك ....
ومهنتي الشوق إليك ..
والحزن راتبي ....
وحتى حين اتوهم أنني ارتويت من نبعك
وابتعد بشفتي عن بحيراتك
يستعر شوقي إليك
كغابة تعصرها النيران ..
أناديك ....
والليل جاثم خلف الجدران
والفراق قد شهر مخالبه
أناديك ..
والنوم يتقدم مني مهددا ً
بعشرات من كوابيس الوداع
أناديك
يا من كنت قبل دقائق معي
وكان صوتك شرنقتي الحريرية
أناديك
يا حصني ضد الأحزان الليلية
وتعويذتي الصحراوية
لفني بعباءة حنانك
ولا تعبأ بما أقوله
أو لا أقوله
أناديك
لملم أشلائي الـممزقه
على طول عام من الحب والكراهية
لملمها من ليالي القلق
والفراق والإنتظار واللقاء
والشوق والشوق .. الشوق
اّه كم أفتقدك
أنــا التي ودعتك للتو ....
وكيف أحتمل رحلة الليل
ريثما تشرق ثانية في عالمي
*** الحب الدمشقي ***
ها أنا أغادر قطار المكابرة وأعترف: لعلّي أحبك!
عبر صلتنا اكتشفت كيف تستطيع مياه الشلالات
أن تصعد ثانية إلى نبعها،
وكيف تبني الطيور أعشاشها على الغصن ذاته مرتين،
وكيف ترجع الزهرة الذابلة في إنائها برعماً في الحقل،
وكيف تتسلل قطرة العطر من زجاجتها الكريستالية
إلى الدورة الدموية لوردتها الأم...
وكيف تنهض الأوراق اليابسة على الأرض،
لتغطي بخضرتها الربيعية الأغصان، وكيف يتأجج الرماد
جمراً...
معك تأملت الرمل الأزرق في ساعتي الرملية
وهو يسقط من الأسفل إلى الأعلى...
معك اكتشفت كيف يغادر القلب
الحديقة الزجاجية للنباتات ليصير غابة مدارية..
معك أدركت أنه "ما الحب إلا للحبيب الأخير"،
وبك اكتشفت أن الربيع لا يأتي إلا إكراماً لسنونوة واحدة!
*** هواجس في قارب الرحيل ***
تحت مظلة فقدان الذاكرة...
عبثاً أخدر وجع الروح،
بابرة ضوء الشمس في العروق...
عبثاً ترفع مياهي الأقليمية رايات النعاس...
ويصدح قلبي بنشيد النسيان، وأنا أسدّ أذنيَّ بأصابعي
واحشوهما بالرمل كي لا تحمل لي الرياح أصوات ما يدور
هناك... كأنني لا أريد حقاً أن أنسى ، لكنني أزني مع النسيان
من وقت إلى آخر... كأنني مصمّمة على الاستمرار في درب
الحلم والدهشة...
كأية مجنونة مثالية سأظل أحلم بتلك التلال البيروتية البحرية
واقحوانها الربيعي الأصفر (الذي تغطيه أكياس القمامة الزرق
وتلالها منذ عشرة أعوام أو أكثر)... وسأظل أحنّ إلى تلك
الشواطئ المزروعة بطيران النوارس (والتي نمت عليها الجثث
والمقتول..)...
لستُ ماسوكية تتسوّل ضربة من سوط من جلادها للتتعذب
وتسعد...
أريد أن أظل أحلم... كي أظل أحيا...
محاضرة قصيرة: الحلم بمعنى ما هو إرادة التبديل... إنه
الخطوة الأولى نحو الترميم.. إلى آخره (ثمة امرأة ساخرة
تقطنني تقرأ ما كتبت للتو، وتمد لسانها لي هازئة ويدها تحمل
الممحاة... وها هي تمحو بقية المقطع)!...
***
لا أريد أن أعلّق حبك على المشجب
مع معاطف الشتاء الغابر،
واذهب إلى الصيف
بعدما غسلتك من رحم حروفي...
لقد حبلت ذات يوم بأطفالك الذين لم يولدوا بعد،
ولن أذهب إلى مواسم النجوم واخلّف زمانك ورائي كيساً من
العظام في ملاجئ العجزة قرب موائد الشفقة المؤذية...
أيها الوطن المستحيل، أعرف أن الانحياز إلى الحياد هو
عدوانية اللامبالاة... وأنا منحازة إلى موتي بك وحياتي
بك...
يسرقني الحنين إليك من كل مكان... أظل أسمع وقع
خطواتي بين الموجة والدمعة على أرصفة بيروت... هناك ذقت
للمرة الأولى طعم الحرية والمسؤولية المطلقة في آن...
ولفظت من حنجرتي رمال صحارى وُئِدتُ تحتها وتراكمات في
حجرات روحي طوال عصور...
تحت عينيك تابعت مسح العنكبوت التاريخي عن أهدابي،
واكتشفت متعة البصيرة قبل البصر...
في بيروت نشرت أجنحة الدهشة، وطرت وحيدة في دروب
الفضول حتى قاع البراكين...
في بيروت ذقت طعم السقوط إلى القمة والإقامة وحيدة
داخل عملي وتعلّمت كيف تترمم الأجنحة المتكسرة ويخرج
الفينيق من رماده...
***
أيها الشقي... لا تقلْ لي مات أهلي... وأهلك. جئتهم
ذات يوم في بيروت محروقة الأهداب مكسورة النوافذ
والخاطر...
فأخذوني إلى حنانهم الأخضر، وغمروا جلدي المحروق
بماء الورد والياسمين وصلوات البسطاء والطيبين، قاسموني
حبهم المنشور في الطرقات كخبز الفقراء... وضمّدوا قلمي
ومنحوني البحر والحب محبرة...
شربت من بئر لبنان كرماً علمتني أمي دمشق ألا أرده بغير
الكرم... وها أنا أرمي في بئره بحصى الأبجدية وأصلّي كي
تتحول إلى ماسات في قعره...
لأنني شربت من بئر لبنان مياه الصحو الموجع،
لأنني أنصت إلى حكايا القاع والأسرار، اخترقتني صرخة
الماء، ولم يعد ثمة ما ينسيني نشيد الخصب الذي تعلّمته هناك.
***الأبدية لحظة ذكرى***
في مثل هذا اليوم الخريفي الجميل منذ سنوات طويلة،
غادرتكِ يا دمشق وأنا أقسم كاذبة على فراق أبدي كما يحدث في
شجار العشاق جميعاً.
ما زلت أذكر كيف قدتُ سيارتي وحيدة صوب بيروت وأنا
أغيظك بشهوتي للرحيل إلى تلك الأماكن السحرية كلها التي
طالما قرأت أسماءها على الخرائط وحلمت بالذهاب إليها.
في لبنان استقبلتني الألعاب النارية في مهرجان، واشتعلت
الذرى بالنيران الاحتفالية. سألت صبياً في "الكحّالة": هل
تحتفلون بوصولي الليلة إلى بلدكم؟ ضحك وقال: اليوم "عيد
الصليب". فرحت بالزينات والمشاعل ولم أكن أدري أن احتفالاً
طويلاً بصلبي على أشجار الغربة بين القارات بدأ تلك الليلة...
قبل أن أنام، راودتني الورقة عن نفسي لأخطّ لك رسالة ما،
فنحن لم نفترق قبلها ليلة واحدة، ولم يكن بوسعي أن أنام دون
أن أذكرك وأتشاجر معك. وما كدت أخط اسمك على الورقة
البيضاء حتى تحولت إلى حقل شاسع من الياسمين!
وعرفت كيف يغطي الحنين مساحات العتاب: إنه قدر
العشّاق.
***
أرحل أرحل. أبحث عنكِ طويلاً ولا أجدكِ ، ويهبط الثلج
بهدوء عارياً وعلى رؤوس أصابعه في القارة الأخرى.
ومثله، أهبط بهدوء حتى قاع ذاكرتي.
وهناك، أجدكِ بانتظاري كالمعجزة...
وتهب رائحة الياسمين حتى حافة البكاء...
***
يوم غادرتُكِ ، عبأت عمري في عدة حقائب، وها أنا أتشرد
بها من بلد إلى آخر، مثل راع يقود قطيعاً ضالاً من الخرفان في
الصباحات الوعرة، بين مراعي الغيم، تطارده بروق الذاكرة
وتحرقه صواعقها...
حبكِ طائر تسلل إلى مركبي مزقزقاً بأصوات صديقات
الطفولة، وبنى عشه ولكن داخل شراعي، فغطاه الياسمين الذي
كان يتسلق شرفتي الدمشقية العتيقة وكانت جدتي قد زرعته بيدين
تفوح منهما رائحة ماء الزهر والحّناء وتضمران الوشم البدوي
الجميل...
***
سيدة الرحيل
تزوجَت من المجازفة
وأنجبا الدهشة.
سيدة الرحيل، دموع من حبر، وشفتان من ورق،
ورئتان تتنهدان عطر الياسمين...
***
في السهرة الباريسية، يتنزه حزني بين المدعوين وهو ينثر
النكات والضحكات، وفي عنقه عقد من الياسمين عمره ربع قرن
وما زال نضراً كأنه قُطف للتو...
في السهرة العامرة يلتقي حزني بالحنين، فيمشيان معاً يداً
بيد، ويرقصان في الحلبة خداً على خد.
حبكِ يا دمشق بجعة بيضاء تسبح فوق مياه الذاكرة المعتمة
الغامضة بكل صمت الياسمين وسرّيته.
***الأبدية لحظة غربة ***
كيف أغلق ملف السفر؟
كيف أتحوّل إلى مقعد - خارج طائرة - !...
مقعد حجري منحوت في صخور قاسيون؟
كيف أصير شجرة لا تغادر جذورها ؟
كيف أترجَّل عن الرحيل لأعود حبة رمل في شطآنك التي
طالما ارتجفت في الانفجارات؟
وكيف أقول لك حنيني إلى الياسمين دون أن أقوله؟
على ضفة أشواقي المستحيلة انحنى البكاء وبكى ، وشهقت
رياح الليل، وأنا أحاول عبثاً إغماد خنجري في صدر تلك
الغجرية الشرسة: ذاكرتي...
أحدق في نهر السين من النافذة وبين أهدابي لا يزال نهر
بردى يركض والنيل ودجلة...
أحدِّق في زحام السيارات وفوق عينيّ يركض المحراث
القروي العتيق وأفراح طفولتي فوق عربات "الدريسة" على حقول
القمح المقطوفة بالنضج...
أحدِّق في رفاق السهرة بالمطعم الباريسي وأتذكر سندويشات
"أبو علي" في رأس بيروت، ونحن نلتهمها على شاطئ البحر
داخل السيارة مقابل "فندق الريفييرا"... وحين يمر بائع
الياسمين نشتري عقداً نهديه للبحر...
من قال إن الجسد لا يستطيع أن يكون في مكانين مختلفين
في وقت واحد، وأنا أعيش ذلك منذ خمسة أعوام؟
***
أنشد تحية العَلَم للمنفى ،
وأنشر جسدي المقدّد بالغربة،
على شطآن خرافية السحر...
وأعلن أنني مبنّجة بالحاضر، لكن حبك
يطل برأسه كعشبة خضراء حياً ونضراً... يشرق فوق
الأراضي المحروقة للقلب، وتفوح منه رائحة ليالي بيروت
المعطرة بالبحر والملح والهذيان... (تلك العاشقة التي تسكن
جسدي، متى تغادرني وتدعني بسلام؟)...
هل بدأ موتنا يوم اخترعوا لهزائمهم مفردات جديدة،
وزوّروا الكلمات فضلّت الحرب طريقها إلى ساحة المعركة
الحقيقية؟
منذ ذلك اليوم ونحن نركض ونلملم عبثاً ذلك العمر المهشم
بين الليل والليل، بين الملح والجرح، بين الأفق والمقبرة، بين
الوسادة والكابوس...
***
تعبنا من غربة تتشرد داخلنا ... تسافر في أوعيتنا الدموية،
وتركب قطارات نبضنا، وتقطع تذكرة إلى نخاع عظامنا
وتنتحب في عمق أعماقنا...
كل من يحنّ إلى مدينة يعودة إليها. ولكن ماذا يفعل من
يشتاق إلى مدينة لم تعد موجودة إلا في خرائب الذاكرة؟
وكيف يركب آلة الزمن إليها؟
كيف أقنع نفسي بأنك صرت جزءاً من مسحوق الذاكرة
الأبيض، المنثور في الضباب المُخَدِّر للنسيان؟
ماذا أقول للطيور التي تسكننني
وفي أجنحتها جوع التحليق أبداً؟
وهل عليَّ أن أغدر بماضينا الجميل معاً
رشوة لحراس مستقبلي؟
***
نحن الذين توهمنا اننا رحلنا يوم رحلنا...
نعرف أن الحلم سيسوقنا إلى خوفنا الجنون...
وأن الزمان الرديء يعني
أن يصير الحنين إلى الياسمين هذياناً...
والانتماء إلى الطحالب طموحاً.
ولكن، ما حيلتنا مع قلبنا السنونو،
الذي يرفض إرشادات البوصلات المزوّرة،
مصرّاً على التحليق صوب الربيع؟
حينما تنتهي قصصنا ..
نعود بلا حلم يؤرقنا..
نخرج من الباب.. أو يخرج الباب من أضلعنا..
نعود فننكفئ على طقوسنا الداخلية.. الصمت هو أجملها..
وحذاء جعفر الذي لم يغيره .. يعلمك ان الحياة اقسى من حذاء سياسي أعمى..
نبدأ نسأل عن اسماء الشوراع من جديد..
وعن المكتبة التي تحولت إلى صالون حلاقة نسائية.. وعن كتب الفلسفة واسماء مؤلفيها..
أنك تعود من جديد حينما لا تكون في حياتك قصة.. فتقرر أن تتعلم السعادة، وأن لا تتذمر او تشكو من الطقس والملل والرغبة في أن تجد عملاً، مع أصدقاء عمل يفهمونك ولا تحتاج كثيراً لأن تبرر لهم رغبتك، في صنع وجوهاً أخرى لهم.. وتحصل على صديقة جديدة تشبهك في إبتسامتها، ومثلك تشعر بأن الكلام يفقد معناه بعد العاشرة ليلاً.. ترافقني في أكتشافي للمقاهي المعلقة على واجهات الشوارع الترابية بمدينتي.. ولا تسألني عن قصصي السينمائية التي انتهت ولا أود العودة إليها...
اليوم فكرت بك كما أفكر بكل تلك الأشياء التي كانت تحيطني وتخلت عني بلا سبب..أتذكر مواعيدنا الأولى.. والكتاب الذي حرصت على أن تحضره لي قبل سفري بدقائق.. لأفاجأ انك احضرت لي كتاباً كنت قد خبأته في شنطتي الكبيرة.. الهذا الحد نحن نتشابه، أم أنك تحب أختراع المسرات لي.. كي أبقى معلقة في التفكير بك بلا سبب..تعرف إنني اسقط امام خيبة الجمال.. لكن ماتعرفه انني كبرت ليلة البارحة حتى انني استطيع ان انسى بسرعة مذهلة كل ماقلته لك قبل أيام..
واليوم تفاجئت أنني احب اللون الأخضر.. طالما كرهت هذا اللون منذ كنت صغيره في ملعب المدرسة.. الذي تتوسطه شجرتان، ويبدو أن لهما اللون الأخضر، الذي بدأت اتغلب على شعوري بكرهه، رغم أني لم اعتاد على كره أحد، وخجلت البارحة أن اكرهك.. قلت لك مرة إنني انتظر الشتاء بشغف. لكنك لم تصدقني واكتفيت بأقناعي بضرورة ان نلتقي في ذلك المساء في معرض الصور، حيث كل ماعلق على الحائط الأبيض صوراً لوجوه أشخاص لا نعرفهم.. ولكنك تحديّتني لتكشف لي، إنني سأفاجأ لربما أجد صورتي وأنا صغيرة، معلقة من ضمن كل هذه الصور العالميةّّ. لم تكن مساحة المكان مشغولة بآخرين، وصلت وأنت تعلم أنني سأكون بإنتظارك. كنت تستعجل مابيننا، حتى أنني خلت أنك تريد ان تقول لي، إنك تحبني منذ أول لقاء لنا؟ وبعدها تبدأ في مسايرة لعبة القط والفأر، كما يفعلها معظم الرجال في وطني. لماذا كنت تستعجل معي المفاجاءات.. من الذي اخبرك بسري.. إنني مغرمة بحيل السحرة واللاعبين المهرة!!
قلت لي إننا سنكون اصدقاء، وأجبتك بأنك لست سوى كاذب، وبأنني لن اكتشف أغنية أخرى حتى تحبني. رسمت الجرح في رقبتي والدموع التي تنساب منه، فأحاول إيقافها بريشة جديدة، ربما إذا عدت إلى سماع الأغنية نفسها اكثر من عشرين مرة متتالية، لرسمت صورتك الأخيرة وانت بلا قلب وربما بلا مواجهة.
مشينا في عتمة الثامنة في المدينة، بعدما دققت في كل صور المعرض دن أن أفهم إنبهارك بتكرار مشاهد بعض الوجوه الضيقة التعسة، كانت هناك سيدة ترتدي الحجاب الأسود، تغرس الألم لكل من يشاهدها تضرب بيديها على صدر عباءتها المغبرة من أثر الحرب، قلت لي بتساؤل موجع إذا كانت المرأة على قيد الحياة أم لا؟ سألتك أن تكف عن طرح أسئلتك القاتمة، قلت لي، لقد قرأت وجعهها.. كان كبيراً، لا أظنها ستعيش طويلاً!!. كان حديثنا عن خوفي الجديد، من القراءة والترجمة وإنشغالي بالألوان وبتحديد هوية إنتماءك النفسي العنيف، أو عدمه لأني لم أعد أراك في مكان أو شخص أو حلم أو أكذوبة. فأكتشفت أنني إذا كتبت قصتنا، التي قد تبدو قديمة ومستهلكة، سأسميها " قلبي في حالة طوارئ"، لم أسألك لم لا تحبني؟ أو عما فعلته لأستحق إنسحابك الذي فاجئني، وردة الفعل تلك من نفسي. لكنك كنت تتوقع مني أنني سألحق بك.. ربما هذا ماقالته لك تلك الأغنية؟
لم أقل لك شيئاً، قلت صمتي فقط، ربما قلت إنني لم أجدك أو أنني وجدتك، لكنك نسيت، منذ أبتعادك عني في المرة الأولى بت مشروع أسطورة بالنسبة لي، ولأنني تعودت أن احترم غموضك منذ غادرت، تعلمت أحترام إصرارك على أننا أصدقاء، تضحكني فكرتك عن استهلاك المشاعر، لكنني لست مستعدة الآن لأن اكون إنسانة عادية، تضحك حين يستدعي منها الموقف أن تضحكك وتبكي كلما غادرت.
لم تعد الألوان كما عهدناها في السابق، ربما لهذا أحاول الرسم وأواظب على ممارسة اليوجا، صورتك القديمة حينما كنا معاً في لندن، أحياناً تقلتني فأنا اريد ان اتأكد، إن ماحدث في ذلك النهار الضبابي، لم يكن مشهداً مسروقاً من فيلم قديم، هل تذكر حينما رفضت أن أخرج من المقهى العتيق الصغير، الذي يقع في نهاية الشارع في جادة 221 الجانب المعاكس لمحلات هاردورز، قال لنا الرجل اللبناني ضاحكاً أو مبتسماً لنا، إن هذا المكان هو المقهى المفضل لشاعر المرأة الحر، نزار قباني، وشغلتنا الفكرة وشغلنا الحلم، وشغلتنا فكرة أننا لربما نكون شعراء، لو ظللنا نواظب على المجئ إلى هذا المقهى، نأكل ونضحك ونقص أخبار طفولتنا البعيدة، سقط المطر كثيراً في المدينة، وكان عليّ ان أغادر المقهى، ورفضت.. قلت لك أني أخاف المطر، وأخاف أن يقتلني بعنف وأنا ابنة الصحراء، التي لم تتعود على المطر العاصف، وإنما مطر وطني هو مثلي لطيف ومحب وقادر على أن يذوب في العشق، مسكت ذراعي، وبقوة الرجل بداخلك قلت لي، سيتوقف المطر حالما أفتح الباب، كنت خائفة ومرعوبة، لأول مرة أجيد فهمك، ولأول مرة أشعر بأني قادرة على أن ابقى معك، رغم كل ذلك الخوف الغامض، فتحت الباب وعيناي معلقة على رأسك، صوت اللوحة المعدنية يصطدم بالباب، فتحدث صوتاً أخترع له شكلاً وروحاً ليكون لي، يفتح الباب.. فيتوقف المطر فجأة، وتنظر لي نظرة الرجل المنتصر، ها ألم اخبرك، هل ماعدتِ تصدقيني؟ لقد توقف المطر!!
ولأننا تغيرنا إلى مالا رجعة، لن أغضب منك وسأواجه قرار هروبك، وعدم رغبتك في مواجهتك لي بكثير من اللامبالاة، سأنتهي في الساعة الخامسة من كل شيء، منا ومن مشروع فاشل جمعنا، لكن هل كان عليك أن تعهد إلى بصورتك وسط مساحة من المطر بجانب المقهى العتيق، كي أضطر لأن أتذكر إذا ماكنت أنت ذلك الرجل الساحر، الذي يجيد لعبة تحويل المناديل إلى حمام طائرمن كم قميصة، أم انك ذاك الذي لا يعرف كيف يعيد فتح قلبه، أجدت اليوم خلق حواراً بيني وبين نفسي، لماذا يخاف رجال قبيلتي من مواجهة بعض حقائقهم، أنهم أقل بكثير مما هم يظنون به أنفسهم، أنهم أقزام حينما تتحول قصصهم العاطفية، إلى أشبه بالحقيقة التي يهربون من وضوحها.رغم كل ذلك حاولت أن أحتفظ ببعض من جمالنا وبأغنية لازلت مصرة على أن أحبها.
كم أود أن اطلعك على سر تغير نظرتي لك، فيما يشبه الصمت، أنظر إلى صورتي فأتخيل أنك سترمقها خائفاً من قصص أخرى ستدخل حياتي، وأفرح بقدرتها على أنتزاع إعترافك بأنك رغم كل شئ لم تكن تملك القدرة على أن تقول لي الحقيقة.مشاعر الأنتقام غنية وجديدة بالنسبة لي، فلم َ لا تكون مشروع أكتشاف، كيف أستطعت أن تحافظ على قدرتك على التمثيل تجاهي، قبل العاصفة التي أتت لتغيرني، في إحدى نوباتي، بحثت عن سر واحد لترتيب ماحدث لك، فلم أجد سبباً واحداً، لكن صورتك تزورنني احياناً نهاية كل أسبوع، وتضيع مني لسوء الحظ، أجد الآن رجلاً آخر غيرك، رائعاً والقاً وشهياً، يتنفس معي، ويرسم على ظهر كفي قلباً، ويكتب اسمه وياللغرابة لم يكن اسمك!!
و أيضا ..
حين يهطل المطر على حين غرة أذكرك ..
هكذا تسللت الى حياتي ذات مساء كعصفور مذعور ,, و بينما كنت أداوي جناحه الجريح كان يتأهب ليطير ,
و ها أنا وحيدة في الخواء مع ذكرى عصفور حلق بعيدا تحت المطر ...
أتسائل : حتام تنزه (( حبك )) فوق أشلاء نوحي !!
حتام نتستر على جرحنا و نجامل فراقنا !!
::.. الشوق من الوريد الى الوريد ..::
/
\
/
\
/
مرير هذا الإحساس
بشوق ناري لا يهدأ ....
لا اللقاء يطفئ وهج نيرانه
ولا الفراق ....
دوما ً دوما ً أفتقدك
بــ استسلام كوكب
لـ مداره حول الشمس ..
وحين أسمع صوتك
يتناسل شوقي إليك ويتكاثر ....
وحين يغيب صوتك
ماذا أقول لقبيلة الشوق
التى تقرع طبولها داخل رأسي
دونما توقف
دونما توقف .. دونما توقف
منذ عرفتك
وأنا أحترف حبك ....
ومهنتي الشوق إليك ..
والحزن راتبي ....
وحتى حين اتوهم أنني ارتويت من نبعك
وابتعد بشفتي عن بحيراتك
يستعر شوقي إليك
كغابة تعصرها النيران ..
أناديك ....
والليل جاثم خلف الجدران
والفراق قد شهر مخالبه
أناديك ..
والنوم يتقدم مني مهددا ً
بعشرات من كوابيس الوداع
أناديك
يا من كنت قبل دقائق معي
وكان صوتك شرنقتي الحريرية
أناديك
يا حصني ضد الأحزان الليلية
وتعويذتي الصحراوية
لفني بعباءة حنانك
ولا تعبأ بما أقوله
أو لا أقوله
أناديك
لملم أشلائي الـممزقه
على طول عام من الحب والكراهية
لملمها من ليالي القلق
والفراق والإنتظار واللقاء
والشوق والشوق .. الشوق
اّه كم أفتقدك
أنــا التي ودعتك للتو ....
وكيف أحتمل رحلة الليل
ريثما تشرق ثانية في عالمي
*** الحب الدمشقي ***
ها أنا أغادر قطار المكابرة وأعترف: لعلّي أحبك!
عبر صلتنا اكتشفت كيف تستطيع مياه الشلالات
أن تصعد ثانية إلى نبعها،
وكيف تبني الطيور أعشاشها على الغصن ذاته مرتين،
وكيف ترجع الزهرة الذابلة في إنائها برعماً في الحقل،
وكيف تتسلل قطرة العطر من زجاجتها الكريستالية
إلى الدورة الدموية لوردتها الأم...
وكيف تنهض الأوراق اليابسة على الأرض،
لتغطي بخضرتها الربيعية الأغصان، وكيف يتأجج الرماد
جمراً...
معك تأملت الرمل الأزرق في ساعتي الرملية
وهو يسقط من الأسفل إلى الأعلى...
معك اكتشفت كيف يغادر القلب
الحديقة الزجاجية للنباتات ليصير غابة مدارية..
معك أدركت أنه "ما الحب إلا للحبيب الأخير"،
وبك اكتشفت أن الربيع لا يأتي إلا إكراماً لسنونوة واحدة!
*** هواجس في قارب الرحيل ***
تحت مظلة فقدان الذاكرة...
عبثاً أخدر وجع الروح،
بابرة ضوء الشمس في العروق...
عبثاً ترفع مياهي الأقليمية رايات النعاس...
ويصدح قلبي بنشيد النسيان، وأنا أسدّ أذنيَّ بأصابعي
واحشوهما بالرمل كي لا تحمل لي الرياح أصوات ما يدور
هناك... كأنني لا أريد حقاً أن أنسى ، لكنني أزني مع النسيان
من وقت إلى آخر... كأنني مصمّمة على الاستمرار في درب
الحلم والدهشة...
كأية مجنونة مثالية سأظل أحلم بتلك التلال البيروتية البحرية
واقحوانها الربيعي الأصفر (الذي تغطيه أكياس القمامة الزرق
وتلالها منذ عشرة أعوام أو أكثر)... وسأظل أحنّ إلى تلك
الشواطئ المزروعة بطيران النوارس (والتي نمت عليها الجثث
والمقتول..)...
لستُ ماسوكية تتسوّل ضربة من سوط من جلادها للتتعذب
وتسعد...
أريد أن أظل أحلم... كي أظل أحيا...
محاضرة قصيرة: الحلم بمعنى ما هو إرادة التبديل... إنه
الخطوة الأولى نحو الترميم.. إلى آخره (ثمة امرأة ساخرة
تقطنني تقرأ ما كتبت للتو، وتمد لسانها لي هازئة ويدها تحمل
الممحاة... وها هي تمحو بقية المقطع)!...
***
لا أريد أن أعلّق حبك على المشجب
مع معاطف الشتاء الغابر،
واذهب إلى الصيف
بعدما غسلتك من رحم حروفي...
لقد حبلت ذات يوم بأطفالك الذين لم يولدوا بعد،
ولن أذهب إلى مواسم النجوم واخلّف زمانك ورائي كيساً من
العظام في ملاجئ العجزة قرب موائد الشفقة المؤذية...
أيها الوطن المستحيل، أعرف أن الانحياز إلى الحياد هو
عدوانية اللامبالاة... وأنا منحازة إلى موتي بك وحياتي
بك...
يسرقني الحنين إليك من كل مكان... أظل أسمع وقع
خطواتي بين الموجة والدمعة على أرصفة بيروت... هناك ذقت
للمرة الأولى طعم الحرية والمسؤولية المطلقة في آن...
ولفظت من حنجرتي رمال صحارى وُئِدتُ تحتها وتراكمات في
حجرات روحي طوال عصور...
تحت عينيك تابعت مسح العنكبوت التاريخي عن أهدابي،
واكتشفت متعة البصيرة قبل البصر...
في بيروت نشرت أجنحة الدهشة، وطرت وحيدة في دروب
الفضول حتى قاع البراكين...
في بيروت ذقت طعم السقوط إلى القمة والإقامة وحيدة
داخل عملي وتعلّمت كيف تترمم الأجنحة المتكسرة ويخرج
الفينيق من رماده...
***
أيها الشقي... لا تقلْ لي مات أهلي... وأهلك. جئتهم
ذات يوم في بيروت محروقة الأهداب مكسورة النوافذ
والخاطر...
فأخذوني إلى حنانهم الأخضر، وغمروا جلدي المحروق
بماء الورد والياسمين وصلوات البسطاء والطيبين، قاسموني
حبهم المنشور في الطرقات كخبز الفقراء... وضمّدوا قلمي
ومنحوني البحر والحب محبرة...
شربت من بئر لبنان كرماً علمتني أمي دمشق ألا أرده بغير
الكرم... وها أنا أرمي في بئره بحصى الأبجدية وأصلّي كي
تتحول إلى ماسات في قعره...
لأنني شربت من بئر لبنان مياه الصحو الموجع،
لأنني أنصت إلى حكايا القاع والأسرار، اخترقتني صرخة
الماء، ولم يعد ثمة ما ينسيني نشيد الخصب الذي تعلّمته هناك.
***الأبدية لحظة ذكرى***
في مثل هذا اليوم الخريفي الجميل منذ سنوات طويلة،
غادرتكِ يا دمشق وأنا أقسم كاذبة على فراق أبدي كما يحدث في
شجار العشاق جميعاً.
ما زلت أذكر كيف قدتُ سيارتي وحيدة صوب بيروت وأنا
أغيظك بشهوتي للرحيل إلى تلك الأماكن السحرية كلها التي
طالما قرأت أسماءها على الخرائط وحلمت بالذهاب إليها.
في لبنان استقبلتني الألعاب النارية في مهرجان، واشتعلت
الذرى بالنيران الاحتفالية. سألت صبياً في "الكحّالة": هل
تحتفلون بوصولي الليلة إلى بلدكم؟ ضحك وقال: اليوم "عيد
الصليب". فرحت بالزينات والمشاعل ولم أكن أدري أن احتفالاً
طويلاً بصلبي على أشجار الغربة بين القارات بدأ تلك الليلة...
قبل أن أنام، راودتني الورقة عن نفسي لأخطّ لك رسالة ما،
فنحن لم نفترق قبلها ليلة واحدة، ولم يكن بوسعي أن أنام دون
أن أذكرك وأتشاجر معك. وما كدت أخط اسمك على الورقة
البيضاء حتى تحولت إلى حقل شاسع من الياسمين!
وعرفت كيف يغطي الحنين مساحات العتاب: إنه قدر
العشّاق.
***
أرحل أرحل. أبحث عنكِ طويلاً ولا أجدكِ ، ويهبط الثلج
بهدوء عارياً وعلى رؤوس أصابعه في القارة الأخرى.
ومثله، أهبط بهدوء حتى قاع ذاكرتي.
وهناك، أجدكِ بانتظاري كالمعجزة...
وتهب رائحة الياسمين حتى حافة البكاء...
***
يوم غادرتُكِ ، عبأت عمري في عدة حقائب، وها أنا أتشرد
بها من بلد إلى آخر، مثل راع يقود قطيعاً ضالاً من الخرفان في
الصباحات الوعرة، بين مراعي الغيم، تطارده بروق الذاكرة
وتحرقه صواعقها...
حبكِ طائر تسلل إلى مركبي مزقزقاً بأصوات صديقات
الطفولة، وبنى عشه ولكن داخل شراعي، فغطاه الياسمين الذي
كان يتسلق شرفتي الدمشقية العتيقة وكانت جدتي قد زرعته بيدين
تفوح منهما رائحة ماء الزهر والحّناء وتضمران الوشم البدوي
الجميل...
***
سيدة الرحيل
تزوجَت من المجازفة
وأنجبا الدهشة.
سيدة الرحيل، دموع من حبر، وشفتان من ورق،
ورئتان تتنهدان عطر الياسمين...
***
في السهرة الباريسية، يتنزه حزني بين المدعوين وهو ينثر
النكات والضحكات، وفي عنقه عقد من الياسمين عمره ربع قرن
وما زال نضراً كأنه قُطف للتو...
في السهرة العامرة يلتقي حزني بالحنين، فيمشيان معاً يداً
بيد، ويرقصان في الحلبة خداً على خد.
حبكِ يا دمشق بجعة بيضاء تسبح فوق مياه الذاكرة المعتمة
الغامضة بكل صمت الياسمين وسرّيته.
***الأبدية لحظة غربة ***
كيف أغلق ملف السفر؟
كيف أتحوّل إلى مقعد - خارج طائرة - !...
مقعد حجري منحوت في صخور قاسيون؟
كيف أصير شجرة لا تغادر جذورها ؟
كيف أترجَّل عن الرحيل لأعود حبة رمل في شطآنك التي
طالما ارتجفت في الانفجارات؟
وكيف أقول لك حنيني إلى الياسمين دون أن أقوله؟
على ضفة أشواقي المستحيلة انحنى البكاء وبكى ، وشهقت
رياح الليل، وأنا أحاول عبثاً إغماد خنجري في صدر تلك
الغجرية الشرسة: ذاكرتي...
أحدق في نهر السين من النافذة وبين أهدابي لا يزال نهر
بردى يركض والنيل ودجلة...
أحدِّق في زحام السيارات وفوق عينيّ يركض المحراث
القروي العتيق وأفراح طفولتي فوق عربات "الدريسة" على حقول
القمح المقطوفة بالنضج...
أحدِّق في رفاق السهرة بالمطعم الباريسي وأتذكر سندويشات
"أبو علي" في رأس بيروت، ونحن نلتهمها على شاطئ البحر
داخل السيارة مقابل "فندق الريفييرا"... وحين يمر بائع
الياسمين نشتري عقداً نهديه للبحر...
من قال إن الجسد لا يستطيع أن يكون في مكانين مختلفين
في وقت واحد، وأنا أعيش ذلك منذ خمسة أعوام؟
***
أنشد تحية العَلَم للمنفى ،
وأنشر جسدي المقدّد بالغربة،
على شطآن خرافية السحر...
وأعلن أنني مبنّجة بالحاضر، لكن حبك
يطل برأسه كعشبة خضراء حياً ونضراً... يشرق فوق
الأراضي المحروقة للقلب، وتفوح منه رائحة ليالي بيروت
المعطرة بالبحر والملح والهذيان... (تلك العاشقة التي تسكن
جسدي، متى تغادرني وتدعني بسلام؟)...
هل بدأ موتنا يوم اخترعوا لهزائمهم مفردات جديدة،
وزوّروا الكلمات فضلّت الحرب طريقها إلى ساحة المعركة
الحقيقية؟
منذ ذلك اليوم ونحن نركض ونلملم عبثاً ذلك العمر المهشم
بين الليل والليل، بين الملح والجرح، بين الأفق والمقبرة، بين
الوسادة والكابوس...
***
تعبنا من غربة تتشرد داخلنا ... تسافر في أوعيتنا الدموية،
وتركب قطارات نبضنا، وتقطع تذكرة إلى نخاع عظامنا
وتنتحب في عمق أعماقنا...
كل من يحنّ إلى مدينة يعودة إليها. ولكن ماذا يفعل من
يشتاق إلى مدينة لم تعد موجودة إلا في خرائب الذاكرة؟
وكيف يركب آلة الزمن إليها؟
كيف أقنع نفسي بأنك صرت جزءاً من مسحوق الذاكرة
الأبيض، المنثور في الضباب المُخَدِّر للنسيان؟
ماذا أقول للطيور التي تسكننني
وفي أجنحتها جوع التحليق أبداً؟
وهل عليَّ أن أغدر بماضينا الجميل معاً
رشوة لحراس مستقبلي؟
***
نحن الذين توهمنا اننا رحلنا يوم رحلنا...
نعرف أن الحلم سيسوقنا إلى خوفنا الجنون...
وأن الزمان الرديء يعني
أن يصير الحنين إلى الياسمين هذياناً...
والانتماء إلى الطحالب طموحاً.
ولكن، ما حيلتنا مع قلبنا السنونو،
الذي يرفض إرشادات البوصلات المزوّرة،
مصرّاً على التحليق صوب الربيع؟